مسائل حول رؤية الهلال
لقد طلب مني بعض الأُخوة من طلاّب العلوم الدينية أبداء رأيي في المسائل المتعلقة برؤية الهلال مع بيان دليل مختصر.
وهذا الکراس يمثل استجابة لطلب هؤلاء الأعزاء وأمتثالا للوظيفة الشرعية في هذه الظروف الخاصّة، ويتعلق البحث بأصل مسألة (رؤية الهلال) ثمّ نتعرض لمسألة (رؤية الهلال بالتلسکوب)، ثمّ مسألة (اتحاد الاُفق).
ولکن قبل الشروع في البحث نشير إلى مسألة أهم من ذلک وهي الاختلاف المؤسف الذي حدث في السنوات الأخيرة في مسألة «رؤية هلال شوّال» حيث بدّل أجواء العيد الجميلة إلى مرارة.
ففي يوم يصلي البعض صلاة العيد ويقولون «أسئلک بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً…» وغداً يصلي البعض الآخر صلاة العيد في تلک المدينة وفي نفس ذلک المسجد ويدعون أيضاً بهذا الدعاء، ولا يعلم أن المقصود من کلمة «المسلمين» في هذا الدعاء من هم ؟
ويتحرک البعض على مستوى زيارة الأخوان وتبريک العيد لهم في حين أنّ البعض يصومون هذا اليوم ويدعون بهذا الدعاء «يا علي يا عظيم… وهذا شهر عظمته وکرمته…. وهو شهر رمضان…» وأحياناً يقع مثل هذا الاختلاف في اُسرة واحدة، في حين أنّ الإسلام دين التوحيد في جميع المجالات ولا موجب لکلّ هذه الاختلافات رغم اختلاف الفتاوى.
ويخشى الکثير من الناس أنّ الحالة ستتفاقم على هذا المنوال في الأعوام الآتية، وبالتالي تثار إشکالات وعلامات استفهام حول تعاليم الإسلام وأحکام الشريعة لدى بعض البسطاء من الناس.
إنّ المشکلة الأصلية هنا أنّنا نواجه في مسألة رؤية الهلال، التي هي من «الموضوعات»، کما نواجه مسألة فقهية وحکماً من أحکام الشرع، في حين أنّنا نعلم أنّ الناس وإن کان الواجب عليهم في المسائل والأحکام الفقهية إمّا أن يکونوا مجتهدين، أو يقلدون مجتهداً معيناً، ولکنهم في الموضوعات (من قبيل رؤية الهلال) فإنّ کلّ شخص يمکنه العمل بعلمه وأطمئنانه.
وتوضيح ذلک : أنّ وجوب صيام شهر رمضان المبارک يعدّ من ضروريات الإسلام ومحکمات القرآن ولا أحد يشک في ذلک، وبما أنّ أصل وجوب الصوم من ضروريات الدين فالتقليد في هذه المسألة لا معنى له طبعاً، ولکن في مورد الأحکام، الجزئيات، الشروط والموانع للصوم يجب على المکلّف إمّا أن يکون مجتهداً، أو يثبع المجتهدين في هذه المسائل.
أمّا مسألة أنّ هذا اليوم هو من شهر رمضان أم لا؟ فإنّ ذلک من الموضوعات التي يمکن لکلّ إنسان أن يتحرک على مستوى العلم بها وتشخيص هوية هذا اليوم والعمل بالحکم المترتب عليه، وبعبارة اُخرى أنّ کلُّ مکلّف ثبت لديه أنّ هذا اليوم هو اليوم الأوّل من شهر رمضان فإنّه يجب عليه صومه، وإذا ثبت أنّه عيد فعليه أن يفطر.
وبالرغم من أنّ الناس وبسبب اعتمادهم على مراجع الدين يتوجهون في هذه الموضوعات المهمّة أيضاً إلى هؤلاء المراجع ليحصل لهم الاطمئنان في تشخيص الموضوع، ولکن لا يجب على مراجع الدين من الوجهة الشرعية ابداء نظرهم في هذا الموضوع ويمکنهم تفويض ذلک إلى الناس أنفسهم والقول بأنّ هذه المسألة من الموضوعات فعليکم التحقيق والفحص ثمّ العمل.
ومن جهة اُخرى فإنّ الناس لو تحرکوا في أمر التحقيق في هذه المسألة التي تتمتع ببعد عام واجتماعي من موقع الاستقلال والانفراد فسنواجه اختلافات کثيرة بسبب تعدد منابع التحقيق في هذا الموضوع، وذلک يخالف روح الإسلام ولا ينسجم مع أجواء التعاليم القرآنية.
کما أنّ رجوع الناس إلى مراجع الدين بشکل منفرد وکلٍّ على حدّ يثير هذه المشکلة أيضاً لأنه من الممکن أن يرجع بعض الشهود في مدينة معيّنة إلى مرجع ديني فيشهدون عنده برؤية الهلال، بينما يقوم البعض الآخر بالشهادة لدى مرجع آخر على خلاف ذلک، أو أنّ الشهود الذين شهدوا لدى المرجع الأوّل ليسوا مورد الاعتماد والاطمئنان للمرجع الثانى، أو أنّ الشهود هؤلاء لم يوفقوا في الحضور لدى مرجع آخر وأداء الشهادة نفسها.
کلّ هذه الاُمور أدّت إلى ثبوت هلال الشهر عند أحد المراجع وعدم ثبوته عند مرجع آخر، وبذلک نشأ الاختلاف المؤسف والمثير للقلق بين الناس وأدّى أيضاً إلى تهميش واختزال عظمة العيد والشهر المبارک والشعائر المتعلقة بهما حتّى انسحب الحال هذا إلى داخل الاُسر الدينية أيضاً.
شورى رؤية الهلال :
هنا يوجد طريق واضح بأمکانه حلّ هذه الاختلافات وعلى الأقل أن يتحرک أهل البلد الواحد في طريق واحد ومسير معيّن وبذلک يتمّ الاحتفاظ بعظمة وجلالة الشعائر الدينية في هذا الشهر المبارک، وهو تشکيل شورى لمسألة رؤية الهلال من الخبراء في هذا الفن ونوّاب مراجع الدين حيث يتمّ جمع الأخبار والمعلومات الواصلة حول رؤية الهلال من جميع الأطراف، سواءً بطريقة الشهود المباشر أو بطريق الاتصال بالخبراء في علم النجوم الّذين تؤخذ نظراتهم بعنوان مؤيد فيتم جمع هذه المعلومات والفتوى على وفقها برأي واحد.
قد يقال : إذا لم يحصل لاعضاء الشورى نظر واحد (سواء بسبب جرح وتعديل الشهود أو بسبب آخر) فما العمل ؟
الجواب : إنّ المعيار في هذا الحال هو رأي الأکثرية، لأنّ أغلب الناس يحصل لديهم اطمئنان أکثر بهذه الصورة و يکون ذلک (أقرب إلى الواقع)، وبما أنّ البحث، کما تقدّم، هو بحث في تشخيص الموضوع لا تشخيص الحکم، فلا نواجه مشکلة في هذا المورد.
وقد يثار سؤال آخر، وهو أنّ مراجع الدين أحياناً يختلفون في فتواهم بالنسبة إلى الأحکام المتعلقة برؤية الهلال حيث سيترتب على ذلک تأثيرات خاصّة على هذه المسألة.
ونعتقد أنّ هذه المسألة لا تولد مشکلة مهمّة ايضا، وقد وجدنا طريق الحلّ لذلک رغم أنّ بيانه لا يسعه هذا المختصر.
وعلى اىّ حال يمکن اعتبار نظر الأکثرية کمعيار لرؤية الهلال شرعاً فيما إذا تحرّوا الدقّة الکاملة وبالتالي يصحّ الاعتماد على رأي الأکثرية والعمل به لحصول الاطمينان به.
وبديهي أنّ الرسول الاعظم و اوصيائه(عليهم السلام) لا يرضون لاتباعهم التوغل في دوامة الاختلاف والتفرقة في هذا الأمر المهمّ حتّى يمتد هذا الاختلاف إلى کلّ مدينة وکلّ اُسرة ويؤدّي إلى توهين قوتهم وقدرتهم أمام الأعداء.
عندما يسمح أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من أجل حفظ شوکة المسلمين ووحدتهم أن يشترک أتباعهم في صلاة الجماعة لأهل السنّة رغم وجود اختلافات في الکثير من فروع الصلاة، فکيف يرضون بحدوث الفرقة بين أتباعهم في مسألة رؤية الهلال ؟ وبالخصوص في هذا الزمان الذي تتنقل فيه الأخبار بسرعة من نقطة إلى نقطة اُخرى في العالم.
ومن العجائب أنّه بسبب عدم وجود شورى مرکزية تأخذ على عاتقها مهمّة رؤية الهلال، وکذلک الاعتماد على شهود ليسوا من أهل الخبرة فإنّ الناس کانوا لسنوات مديدة يصومون الشهر المبارک (29) يوماً ومن النادر أن يتذکر الشخص أنّه صام شهر رمضان ثلاثين يوماً!! وهذا من الناحية العلمية امر غير ممکن ولا يعلم من هو المسؤول عن ذلک ؟
نأمل أن يفکر المسؤولون في المؤسسات الدينية باطروحة «شورى رؤية الهلال» ويکشفوا عن التعقيدات والإشکاليات التي تلابس هذا الطرح المهمّ.
هل تکفي رؤية الهلال بالمراصد والتلسکوب ؟
المشهور بين مراجع الدين أنّ رؤية الهلال يجب أن تکون بالعين المجرّدة، ولکن بعض الفقهاء المعاصرين ذهبوا إلى کفاية مشاهدة الهلال بالتلسکوب.
ومع تحري الدقّة في الأدلّة الشرعية يتبيّن أنّ الرأي الثاني، مع إحترامنا لجميع آراء المجتهدين، لا يوافق الأدلّة والقواعد الفقهية، لأنّه :
أوّلاً : إنّ المعيار الوارد في الروايات المتواترة لثبوت الهلال هو «الرؤية»، ومن ذلک ما ورد في الباب الثالث من أبواب شهر رمضان المبارک في وسائل الشيعة ما يقارب 28 رواية حيث تتفق غالباً على هذا المضمون وهو «إذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فافطر» أو «صمّ للرؤية وافطر للرؤية».
ونقرأ في الأبواب اللاحقة أيضاً روايات في هذا المجال، وعندما تتحدث الروايات عن «الرؤية» فتنصرف إلى الرؤية المتعارفة، وهي الرؤية بالعين المجرّدة وغير المسلحة، لأنّ الفقهاء يرون انصراف الاطلاقات في جميع أبواب الفقه للأفراد المتعارفة لا الافراد النادرة جدّاً مثلاً :
-
في باب الوضوء، حيث ذهبوا إلى أنّ حدّ الوجه الذي يجب غسله هو ما دارت عليه الابهام والوسطى عرضاً ومن منبت الشعر إلى الذقن طولاً. ثمّ صرّحوا بأنّ المدار في هذا التحديد هو الأفراد المتعارفة من حيث طول الأصابع ومحل إنبات الشعر وأمثال ذلک، ويجب على الأشخاص غير المتعارفين العمل طبقاً للأفراد العاديين.
-
في باب مقدار الکرّ حيث ورد تعيينه بالأشبار، فقالوا بأنّ المعيار هو الشبر المتعارف، وما خرج عن المتعارف فليس بمعيار للکرّ في نظر الفقهاء.
-
في باب تعيين المسافة الشرعية لقصر الصلوة وافطار الصيام حيث ورد تعيينها في الفقه بالقدم، والمعيار هو بالاقدام المتعارف.
-
في باب الصلاة والصوم في المناطق القطبية، أو القريبة من القطب حيث تکون الأيام والليالي قصيرة جدّاً وغير متعارفة، فقد يکون اليوم عدّة شهور و کذا الليل فإن الکثير من الفقهاء يرون لزوم رجوع سکان هذه المناطق إلى مقدار اليوم و الليلة فى المناطق المتعارفة في تعيين الوقت للصلوة و الصيام.
-
في مسألة حدّ الترخص (رؤية جدران المدينة، أو سماع اذانها حيث صرّحوا بأنّ المعيار هو الرؤية بالعين المتوسطة (لا الحادة ولا الضعيفة) والاُذن المتوسطة والأذان المتعارف، وأمّا ما خرج عن الحدّ المتوسط والمتعارف فليس بمعيار لهذه المسألة(1)، وقد ذهب إلى ذلک کبار الفقهاء المعاصرين.
-
بالنسبة إلى المنکرات التي يجب فيها حدّ الجلد (السوط) حيث قالوا بأنّ السوط هنا هو السوط المتعارف، فيجب اجتناب السياط الثقيلة وغير المتعارفة، وکذلک السياط الضعيفة والقليلة التأثير.
-
في أبواب النجاسات ذکروا أنّه إذا زالت عين النجاسة ظاهراً (کالدم مثلاً) ولکن بقي لونه أو رائحته فهو طاهر، والحال أنّنا إذا نظرنا إلى المحل بالميکرسکوب فإنّنا سنرى ذرات صغيرة من الدم حتماً (لأنّ اللون والرائحة يقترنان عادة بأجزاء المادة) ولکن بما أنّ هذه المشاهدة خارجة عن المتعارف فإنّها لا تکون مناطاً للأحکام الشرعية.
-
إذا استهلکت النجاسة في ماء الکر (کما في مثال الدم) فقد ذهب جميع الفقهاء إلى الطهارة، مع أننا لو نظرنا بالميکرسکوب أو المجهر لرأينا ذرات من الدم في ذلک الماء.
مضافاً إلى هذه «الموارد الثمانية» فهناک موارد اُخرى في جميع أبواب الفقه نرى فيها أنّ کلام الشارع أو لسان الآية أو الرواية مطلق، وقد ذهب الفقهاء إلى انصرافه إلى «الفرد المتعارف».
ومن المعلوم فيما نحن فيه أنّ المعيار في رؤية الهلال الواردة في الروايات المتواترة هي الرؤية المتعارفة، أي بالعين المجرّدة، وأمّا العين المسلحة فخارجة عن المتعارف وغير مقبولة.
ونحن لا يمکننا أن نتوجه في جميع أبواب الفقه بالنسبة إلى مطلقات الأدلّة إلى الفرد المتعارف، ولکن بالنسبة إلى رؤية الهلال نجعل المعيار والملاک هو الفرد غير المتعارف.
ثانياً : ذهب البعض إلى أنّ المعيار في بداية الشهر هو «تولد الشهر في الواقع» وأنّ الرؤية والمشاهدة لها جانب «طريقي» لا «موضوعي». وعلى هذا الأساس إذا علم الإنسان من خلال جهاز غير متعارف بوجود الهلال و تولده، کفى ذلک.
وفي الجواب نقول : إنّ ظاهر الروايات يقرر أنّ قابلية رؤية الهلال بالعين المجرّدة لها جهة موضوعية (واکرر أن قابلية الرؤية بالعين المجرّدة) لأنّه :
إذا کان المعيار هو بداية الشهر من جهة واقعية، فسنواجه مشکلة مهمّة لا يمکن قبولها، وهي أنّ بداية الشهر کثيراً يکون قبل إمکان رؤية الهلال بالعين المجرّدة، وبعبارة اُخرى أنّ هناک الکثير من الموارد التي يظهر فيها الهلال في السماء ولکن لا يراه أحد بالعين المجرّدة إلاّ أنّ رؤيته ممکنة في الليلة اللاحقة.
وعليه لا بدّ من الاذعان إلى أنّ الهلال في کثير من الأحيان يظهر واقعاً في ليلة سابقة، غاية الأمر بما أنّ أحداً من الناس لم يره بالعين المجردة فإنّ الليلة الثانية ستکون ليلة أوّل الشهر.
صحيح أنّ هؤلاء الناس سيکونون معذورين بسبب عدم رؤيتهم للهلال وعدم علمهم بأوّل الشهر ولکن هل يمکن القول بأن المسلمين منذ بداية البعثة وإلى الآن کانوا يقعون في هذا الاشتباه والخطأ مراراً عديدة وبالتالي سيحرمون من إدراک فضيلة ليالي القدر ويصومون يوم العيد لأنّهم لم يخترعوا جهاز التلسکوب فيصلون صلاة العيد في اليوم اللاحق (لأنّ الهلال کان موجوداً في الليلة السابقة ولکن الناس لم يروه بالعين المجرّدة).
وحتّى الأشخاص الذين يرون کفاية رؤية الهلال بالتلسکوب يجب عليهم الاذعان إلى هذه الحقيقة، وهي أنّهم في السنوات الفائتة وکذلک مقلديهم کانوا يرون الليلة الثانية لشهر رمضان هي الليلة الاُولى وأنّ عيد الفطر يقع في اليوم الثاني من شوّال لأنّهم لم يکونوا يستخدمون سابقاً التلسکوب، وإلاّ فسوف يعلمون أنّ اليوم الأوّل من الشهر هو اليوم السابق وأنّهم لم يدرکوا ليالي القدر کما هي في الواقع هل يلتزمون بهذا الامر؟!
إنّ کلّ هذه الاُمور تشهد بأنّ الملاک الحقيقي لمعرفة الشهر ليس هو وجود الهلال واقعاً بل إنّ المعيار قابليته للرؤية بالعين المجرّدة.
ولقد قلنا في علم الاُصول أنّ «الامارة» أو «الطريق الشرعي» لا يقع فيه الخطأ کثيراً، وأنّ الناس سيحرمون من درک واقع الأمرلو وقع فيها خطاء کثير، ففي موارد تکون الامارة کثيرة الخطأعن الواقع ينبغي القول أنّ الامارة لها موضوعية لا طريقية (فتدبّر).
إنّه من غير المعقول أن يقال بحرمان النبي الأکرم (صلى الله عليه وآله) وسائر المعصومين (عليهم السلام)وجميع المسلمين في السابق من إدراک فضيلة العيد وليالي القدر، بل على العکس نحن نعتقد بأن استخدام التلسکوب في رؤية الهلال يؤدّي إلى أنّ الناس سيحرمون من نيل فضيلة أوّل الشهر وآخره، لأنّ المعيار الواقعي هو رؤية الهلال بالعين المجرّدة.
ربّما يتصور البعض بأنّ استخدام التلسکوب بإمکانه إزالة الاختلافات بين المسلمين في هذه المسألة، في حين أن هذا العمل ليس له أثر في ذلک إطلاقاً، لأنّ قدرة التلسکوبات متفاوتة تماماً، وکذلک بالنسبة إلى المناطق التي يتمّ فيها نصب التلسکوب أو من حيث وجود الغبار والبخار في الاُفق، وعليه فيمکن أن يشاهد الهلال بواسطة بعض التلسکوبات والمراصد، ولا يُرى بالبعض الآخر وبالتالي سيبقى الاختلاف بين المسلمين وتتسع دائرة الفرقة.
هل يشترط وحدة الاُفق ؟
إذا رؤي الهلال في منطقة من العالم، فهل يکفي ذلک لإثبات الرؤية في سائر المناطق الاُخرى ؟
إنّ المشهور بين فقهاء الامامية هو اشتراط وحدة الاُفق. وقد صرّح المحقّق اليزدي (قدس سره)في العروة الوثقى إلى القول بأنّه «يشترط تقارب البلاد أو وحدة الاُفق» وقد وافق عليه أکثر المحشين وشرّاح العروة.
ولکن ذهب بعض الأکابر من القدماء والمعاصرين إلى عدم لزوم هذا الشرط، وأن رؤية الهلال في منطقة معيّنة من العالم تکفي لثبوت الهلال بالنسبة إلى المناطق الاُخرى (بشرط أن تشترک هذه المناطق في مقدار من الليل على الأقل).
والفقيه المعاصر الذي ذهب إلى هذه الفتوى هو آية الله سيدنا الاستاذ الخوئي (قدس سره)، ثمّ تبعه على ذلک جمع من تلامذته الأفاضل.
وأهم دليل يمکن أن يقال في تأييد هذا الرأي أمران :
الأمر الأول: إنّ طلوع الهلال (وخروجه من تحت الشعاع) ظاهرة سماوية ترتبط بالتقابل الموجود بين الشمس والقمر، وکلّما خرج الوجه المقابل لنا من القمر من دائرة الظلمة وبرز إلى الشمس فإنّ هذا بداية شهر جديد، ولا يختلف الحال هذا بين المناطق المختلفة على الأرض، أي أنّ هذه ظاهرة سماوية لا أرضية.
وجاء في تقريرات دروسه(قدس سره) :
«تکوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يکون قابلاً للرؤية ولو في الجملة وهذا کما ترى أمر واقعي وجداني لا يختلف فيه بلد عن بلد ولا صقع عن صقع لأنّه کما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الکونيّة في جوّ الفضاء»(1).
ولکن هذا الکلام ينسجم مع القول بأنّ الأرض مسطحة لا کروية، في حين أنّ کروية الأرض في هذا العصر تعدّ من الاُمور المحسوسة، وإذا کان العلماء في سابق الزمان يثبتون کروية الأرض بأدلة نظرية فإنّ الأقمار الصناعية في هذا العصر قد التقطت صوراً عن جميع مناطق الأرض وکذلک شاهد رجال الفضاء الأرض کروية، فهذا الموضوع أمر محسوس تماماً.
وبعبارة اُخرى: إنّ تکوّن وتولد الهلال يرتبط بثلاثة أشياء : القمر، الشمس، الأرض، لأنّ تکوّن الهلال عبارة عن خط دقيق من القسم النوراني من القمر المواجه لأهل الأرض، ومن المعلوم أنّ هذا القسم النوراني يراه بعض سکّان الکرة الأرضية الذين يقعون بمحاذاة هذا القسم، أسرع من غيرهم، وهذا الموضوع يمکننا إثباته بتجربة حسيّة، فعندما نحضر ثلاثة کرات، أحدها نوراني من قبيل المصباح مثلاً، وهناک کرتان ليس فيهما نور، فسوف نرى بکلّ وضوح أنّه إذا وضعنا الکرة الاُولى الظلمانية في مقابل الکرة النورانية ما عدا خيط نوراني دقيق إلى جهة الکرة الثالثة، فالأشخاص الذين يقفون بإزاء النقطة النورانية، فإنّهم سوف يرونها کخيط نوراني وأمّا الذين لا يقفون بإزاء هذه النقطة فإنّهم لا يرونها.
الشيء الذي يمکن إدراکه بالحسّ لا يحتاج إلى توضيح أکثر، نعم إذا کانت الأرض مسطحة فإنّ المقولة المذکورة ستکون صحيحة، ولکن الأرض کروية قطعاً.
الإشکال الآخر: على هذا الدليل أنّهم يقولون بأنّ جميع البلاد التي تشترک في جزء من الليل فإنها تشترک في رؤية الهلال في نقطة معيّنة وأن بداية الشهر لهم واحدة.
ومفهوم هذا الکلام أنّه إذا تکوّن الهلال مثلاً في مکّة عند غروب الشمس وشوهد فيها، فالمناطق التي تقع إلى جهة الشرق من هذا المکان وقد مرّت عليها عدّة ساعات من الليل إلى منتصفه أو إلى آخر الليل فإنّ ذلک يسبب تبدلّ أوّل الشهر بالنسبة لهم، يعني أنّهم کانوا إلى منتصف الليل أو إلى آخر الليل يعتقدون أنّها الليلة الأخيرة من شهر رمضان لأنهم لم يروا الهلال في منطقتهم، وبالتالي فکانوا يقرأون أدعية الليلة الأخيرة من الشهر المبارک، وفجأة يعلن في منتصف الليل عن کون هذه الليلة هي ليلة أوّل شوّال، لأن الهلال قد شوهد عند غروب الشمس في مکّة في ساعات لاحقة فکان الى منتصف الليل الليلة الاخيرة شهر رمضان حقيقة ثُم صار ليلة العيد حقيقة!.
وهذا أمر عجيب وغير قابل للقبول، لأنّ الهلال قبل عدّة ساعات (أي قبل غروب الشمس في مکّة کما هو مفروض البحث) لم يخرج من تحت الشعاع قطعاً، وبعد خروجه کانت هذه الليلة هي ليلة أوّل الشهر، وهذا يعني أنّ شهر شوّال يبدأ في بعض المناطق من منتصف الليل أو آخر الليل، بينما کان الناس في هذه المناطق ادرکوا الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارک في بعض هذه الليلة.
قد يقال : إنّ ليلة أوّل الشهر کانت في وقت واحد لجميع هذه المناطق، فهذا الکلام غير مقبول، لأنّه حسب الفرض أنّ الهلال خرج من تحت الشعاع بعد عدّة ساعات ولم يخرج لدى سکان هذه المناطق من تحت الشعاع إلاّ بعد ساعات، فلم يکن خلال شهر شوّال طبعاً، فماذا يعني خروج وتولد الهلال في منطقة معيّنة إنّه هلال أول الشهر لجميع هذه المناطق ؟ أي إنّ نصف الليل کان ملحقاً بشهر رمضان والنصف الآخر من شهر شوّال. وبديهي أنّ المناطق التي تقع أبعد من ذلک بحيث لا تشترک مع هذه المنطقة في الليل (مثل کندا وأمريکا) فإنّ أوّل الشهر سيکون اليوم اللاحق قطعاً، و هذا مشکل آخر.
الأمر الثاني: الذي يستدلّ به على عدم اختلاف الآفاق هو اطلاق الروايات، وخاصّة صحيحة هشام بن الحکم، حيث تشير إلى أنّ الهلال إذا شوهد في منطقة معيّنة کفى ذلک لإثبات الرؤية لجميع المناطق.
وهذه الرواية هي : «عن هشام بن الحکم عن أبي عبدالله (الامام الصادق(عليه السلام)) أنّه قال في من صام تسعة وعشرين قال : إن کانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً»(2).
وقد استدلّ بها أصحاب هذه النظرية أنّ اطلاق الرواية يدلّ على أنّ الهلال إذا شوهد في أي مدينة من مدن العالم کفى ذلک لإثباته في المدن الاُخرى، البعيدة منها والقريبة.
کما يدلّ على ذلک بعض الروايات الاُخرى.
الجواب : هذا الکلام بدوره قابل للمناقشة، لأنّ الاطلاق في هذه الروايات منصرف إلى البلاد التي ينتشر فيها خبر الهلال بصورة متعارفة لا البلاد البعيدة عنها بفاصلة عدّة أشهر ومن النادر وصول خبر الهلال لها بسرعة.
وبعبارة اُخرى أنّ هذه الروايات ناظرة إلى البلاد المتقاربة في الاُفق بحيث يمکن وصول الخبر في ذلک الزمان في فترة اُسبوع أو شهر واحد، ولکن البلاد المختلفة في الاُفق قد يطول السفر إليها بوسائل ذلک الزمان لعدّة أشهر فلا يشملها اطلاق هذه الروايات، لأنه من النادر أن يتحرک إنسان بعد عدّة أشهر لإيصال خبر أوّل الشهر والفحص والبحث في ثبوته أو عدم ثبوته.
وحتّى لو شککنا في الاطلاق (وتحقّق مقدمات الحکمة) فإنّ ذلک يساوق عدم الاطلاق (کما ورد هذا الموضوع في علم الاُصول).
وعلى هذا الأساس لا يمکن إثبات وحدة الحکم للبلاد البعيدة بمثل هذه الروايات التي لا تدلّ على حجيّة الشهادة بالرؤية إلاّ بالنسبة إلى البلاد القريبة.
والملفت للنظر أنّ بعض القدماء استند لإثبات هذا المدّعى بلزوم «وحدة ليالي القدر» وتعيين مقدرات الناس في هذه الليلة وکذلک فضيلتها، في حين أنّ القائلين بهذا الرأي يرون وحدة أوّل الشهر في المناطق المشترکة في بعض الليل فقط، أي إنّهم يقولون بأنّ المناطق الاُخرى من الکرة الأرضية (مثل کندا وأمريکا الشمالية والجنوبية) التي يکون فيها الجوّ نهاراً أثناء رؤية الهلال في منطقة اُخرى، وعليه ستکون لديهم ليلة قدر اُخرى قطعاً وسيکون أوّل الشهر في تلک المناطق مختلف عن أوّل الشهر في غيرها فلم تحصل وحدة ليالى القدر.
والأعجب من ذلک قول من يرى أنّ البلدان الإسلامية واقعة في منطقة تشترک في مقدار من الليل، في حين أنّ البلدان البعيدة يعيش فيها ملايين من المسلمين، مضافاً إلى أنّنا نعتقد بأنّ الإسلام وأحکام الشريعة الإسلامية سوف تستوعب جميع مناطق الکرة الأرضية، فماذا سيکون تکليف الناس في ذلک الزمان ؟
وخلاصة الکلام أنّه کما قرر مشهور فقهاءنا وما قامت عليه الأدلّة القوية هو أنّ اتّحاد الاُفق شرط في رؤية الهلال، وهذا الأمر ناشىءٌ من کروية الأرض، کما هو الحال في اختلاف الوقت في الليل والنهار في البلدان المختلفة. وإذا کان المقصود هو حفظ الوحدة بين المسلمين (مع وجود کروية الأرض) فإنّ مثل هذه الوحدة ممکنة في منطقة من المناطق لا في جميع العالم الإسلامي لأنّ المسلمين الذين يعيشون في النصف الآخر من الکرة الأرضية سيکون لهم عيد مستقل حتّى على قول من يرى «عدم لزوم وحدة الاُفق».
(وبالطبع فإنّ تفصيل الکلام في هذه المسائل يحتاج إلى مجال أوسع)، والله العالم بحقائق أحکامه.
والحمد لله ربّ العالمين
ذي الحجّة 1426
- انظر: المسألة 64 من مسائل صلاة المسافر في العروة الوثقى.
- المستند في شرح العروة الوثقى للبروجردي، ج 12، ص 118.
- وسائل الشيعة، ج7، الباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 13.
المصدر: موقع تابع لسماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي